المحور الثاني في بنية المنظور الحضاري (2) مفاهيم وقضايا فكرية: بين التأصيل والرؤى المقارنة.

يقع عالم المفاهيم في القلب من المشروع الحضاري والفكري الإسلامي، وضمن أسس عملية بناء منظور حضاري مقارن في العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالمفاهيم هي لبنات الفكر وأوعية نقله داخل الأمة وعبر الأجيال وفيما بين الأمم. ولقد تعرضت المفاهيم الإسلامية لهجمة كبرى من لدن الاستشراق وواجهت سيلًا من مفاهيم وافدة فُرِضت على العقل والواقع الإسلامي فرضا، واحتلت مساحات العلم والفكر والثقافة، الأمر الذي فاقم من الأزمة الحضارية ومثَّل حجر عثرة أمام محاولات النهوض والتجديد.

ومن ثمّ، مرّ خط بناء منظور حضاري إسلامي داخل دائرة العلوم الاجتماعية بمراحل من الوعي على الإشكال المفاهيمي، ثم الوعي على المخرج المنهاجي منه: بالنقد، والتأصيل، وإعادة بناء المفاهيم التراثية والمعاصرة ضمن منظومات الرؤية الإسلامية: مفاهيم التأسيس، والمفاهيم الأساسية، ومفاهيم العمليات، ومفاهيم الموقف، ومفاهيم متولدة وفرعية، ومفاهيم سجالية في صورة ثنائيات وثلاثيات متقابلة وهكذا. وقد تحصل من ذلك عدة أشكال من الدراسات:

أولها: دراسات التأصيل المفاهيمي العام، وتتضمن عمليات بحثية أساسية، أهمها: التنظير لمنهجية إعادة بناء المفاهيم الإسلامية والسجالية. فهذا التنظير هو بمثابة تطوير مقترب منهاجي من المنظور الإسلامي لنقد المفاهيم وتشريحها والكشف عن السياق الفكري الملابس لها (الحالة المفاهيمية)، وكذلك السياق الواقعي والسياسي بصفة خاصة، ثم تحليل المفهوم أو تفكيكه؛ ومقارنته بالمقابل الأصيل أو الوافد، لكي يتسنى إعادة صياغة مضمونه وإعادة تسكينه ضمن منظومة حاضنة حافظة لأصالته وحافزة لطاقته وفاعليته.

ثانيها: دراسات المنظومات المفاهيمية المتعلقة بحقل معرفي معين؛ كمفاهيم العلوم السياسية بعامة وفي مركزها مفهوم السياسة نفسه، أو مفاهيم العلاقات الدولية، أو مفاهيم نظام الحكم والحكم الرشيد، أو مفاهيم الفكر السياسي، أو مفاهيم علوم الاقتصاد والنفس والتربية والاجتماع أو التمدن والعمران..

ثالثها: وأخص من ذلك: دراسات لمنظومات مفاهيمية تتصدر الساحة الفكرية والمعرفية، سواء في صورة مفاهيم نظرية أو سياسية أو إعلامية، أو قضايا تشغل الفضاء العام، وتشكل أجندة اهتمام الأمة والدول والمجتمعات. كثير من هذه المفاهيم لعبت أدوارًا خطيرة في واقعنا المعاصر: الداخلي والبيني والخارجي، فمنها على سبيل المثال ما كان من مفاهيم للغزو والهجوم الفكري التي دُفِع بها إلى بلادنا وحياتنا الثقافية لكي تفعل مفعول الأسلحة الفتاكة أو تفجر الثوابت أو تفخخ المناهج أو تلتف على أركان الهوية والمرجعية والقيم (التحديث- المعاصرة- العلمانية- الوطنية القطرية- القومية العلمانية- تطور الأديان- العولمة..).. ومنها مفاهيم جرثومية أو أشبه بالفيروسات التي غايتها أن تسمم الأجواء وتخلط الأوراق وتوقد للحرب الفكرية نارًا لا تخمد (الأقليات- الطائفية- الدولة الدينية– التربية المدنية- ..).. ومنها مفاهيم أصيلة تم استهدافها بالتحريف والتشويه والشيطنة وربطها بمفاهيم أخرى ليست من جلدتها ولا من عائلتها (التراث، الأصالة والتأصيل، الأمة، الخلافة، عالمية الإسلام، التجديد الحضاري، الجهاد، المقاومة، النصرة،…).

ولعل المزية الأساسية في المنهجية النقدية والبنائية للتعامل مع المفاهيم ضمن المشروع الحضاري ومن زاوية المنظور المقارن، الوصل بين النظر والعمل، وبين الفكر والواقع، في تناول المفاهيم، والتنبه المبكر إلى أن المفاهيم لم تعد كلمات تتناقلها الألسنة وتعالجها الأذهان فقط، بقدر ما هي أبنية تشيد على الأرض، وأوعية تنقل المنتج الحضاري إن خيرًا وإن شرًّا. ولعل فيما يلي من دراسات نماذج لا تغطي الجهد كله، ولكنها تعبر عن محاولات عسى أن تعين في تشييد منهاج مفاهيمي أصيل وفعال.

أولًا: في بناء المفاهيم:

ثانيًا: منظومات المفاهيم التأصيلية: