المحور الأول : في بنية المنظور الحضاري (1) الرؤية الكلية للمشروع: من النموذج المعرفي إلى المنهجية
تتمثل اللبنات الأولى للمنظور الحضاري الإسلامي والمقارن في علوم الاجتماع والإنسان فيما يعرف بالرؤية الكلية. والمقصود بالرؤية الكلية التصورات الأساسية للباحث عن الظاهرة الكونية والإنسانية والاجتماعية، وتعريفاتها التي يتبناها للعلاقة بين الكون والحياة، والغيب والشهادة، والطبيعة وما وراءها، والمادة والمعنى، والمصلحة والقيمة، والعالم والأمم، وموضع الإنسان من كل ذلك. وينبثق عن هذه التصورات الكلية مكونان مهمان وأساسيان: ما يسمى برؤية العالم الممتدة من الوجودي وحتى السياسي، وكذلك النسق أو النموذج المعرفي؛ الذي يعني ما قبل العلم وتعريف الباحث للمعرفة والعلم وغاياتهما ووسائلهما والطرائق المختلفة لتحصيلهما.
فرؤية العالم أو The World View أو Weltanschauung هي التصور الواصل بين الاعتقادات الكبرى من جهة والعمران البشري والاجتماع الإنساني من جهة أخرى، وهي التي تفرق بين رؤية مؤسسة على الاعتراف بالدين والإيمان الواصل بين الدنيوي والأخروي، وبين المادة والمعنى، ورؤية أخرى وضعية علمانية تكتفي بالمادي والمحسوس وتنكر ما عداه. وهذه الرؤية هي التي تشكل النظارة التي ينظر بها الباحث أو الإنسان إلى المعمورة وأهلها وأصول العلاقات بينهم، والحق فيها والباطل، والثابت فيها والمتغير، ومجالات المشترك الإنساني فيها ومن ثم التعاون والتضامن، ومجالات الاختلاف والتدافع بالتكامل أو التنافس، أو مجالات الاستبعاد والاستقطاب.
ويأتي النموذج المعرفي ليبني على كل ذلك نظرة خاصة في المعرفة، يتميز فيها النموذج الإسلامي بالجامعية والوصل بين ما تراه النماذج المعرفية الأخرى ثنائيات متعارضة ومتناقضة؛ بين مصادر المعرفة من التراث ومن العصر، ومن العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية، ومن الواقع ومن الفكر، ومن العقل والنقل،.. ليمهد ذلك لعمليات تطوير مداخل النظر والتناول وتطوير مناهج البحث والتحليل والتعامل العلمي مع الظواهر. وقد اتسمت دراسات النموذج المعرفي بالمقارنة، انطلاقًا من طرح د. منى أبو الفضل عن الأنساق المعرفية المتقابلة، وأثرها في علوم الأمة والعمران كما اعتادت أن تسميها.
وفي هذا الإطار قطعت دراسات المنظور الحضاري الإسلامي أشواطًا مهمة في تطوير مداخل النظر من قبيل: مدخل القيم، ومدخل السنن، ومدخل إعادة بناء المفاهيم، والمداخل المتعلقة بالتاريخ: الأنماط التاريخية، النماذج الحضارية والتاريخية، ومن أهمها وأبرزها المدخل المقاصدي الذي اتسع التنظير له ليشمل عددًا كبيرًا من الدراسات التأصيلية والتطبيقية. عبَّرت هذه المداخل وغيرها في مجموعها عن تطور منهاجي مهم، وإضافة إبداعية في مناهج البحث العلمي ما يمكن أن يوصف بالمنهجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى طورت مقولات منهجية في حقولها المعرفية تشكل أسس منظور حضاري مقارن داخل العلم الاجتماعي الحديث لا خارجه.
وفيما يلي جزء أول– بعد المقدمات- يتضمن أهم الدراسات المعبرة عن بنية المنظور الحضاري المقارن بدءًا من الرؤية الكلية، فالنموذج المعرفي الإسلامي وخصائصه، فالمنهجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية (وخاصة: العلوم السياسية)، ومداخل علوم شرعية تفيد في دراسة الظاهرة الواقعية، فضلًا عن المداخل التي تم تطويرها من المعين الفكري والحضاري الإسلامي لتطوير علوم الاجتماع أو علوم الأمة والعمران.
أولًا: النماذج المعرفية المتقابلة وخصائص النموذج الإسلامي:
ثانيًا: مداخل العلوم الشرعية لدارسي العلوم الاجتماعية والإنسانية: